علم اور مال
علم اورمال
«أما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إِلَى مَا فِي أيدي الناس وأفقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الأخوان أَوْ لصدقاتهمن أَوْ أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه»
[تلبيس إبليس (ص158)]
.
ذكر تلبيس إبليس عَلَى الصوفية فِي الخروج عَن الأموال والتجرد عنها
كان إبليس يلبس عَلَى أوائل الصوفية لصدقهم فِي الزهد فيريهم عيب المال ويخوفهم من شره فيتجردون من الأموال ويجلسون عَلَى بساط الفقر وكانت مقاصدهم صالحة وأفعالهم فِي ذلك خطأ لقلة العلم فأما الآن فقد كفى إبليس هذه المؤنة فان أحدهم إذا كان لَهُ مال أنفقه تبذيرا وضياعا والحديث بإسناد عَنْ مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن السليمي قَالَ سَمِعْتُ أبا نصر الطوسي قَالَ سَمِعْتُ جماعة من مشايخ الري يقولون ورث أَبُو عَبْد اللَّهِ المقري من أبيه خمسين ألف دِينَار سوى الضياع والعقار فخرج عَنْ ذلك كله وأنفقه عَلَى الفقراء.
وقد روى مثل هَذَا عَنْ جماعة كثيرة وهذا الفعل لا ألوم صاحبه إذا كان يرجع إِلَى كفاية قد أدخرها لنفسه أَوْ إن كانت لَهُ صناعة يستغني بِهَا عَن الناس أَوْ كان المال عَنْ شبهة فتصدق به أما إذا أخرج المال الحلال كله ثم احتاج إِلَى مَا فِي أيدي الناس وأفقر عياله فهو إما أن يتعرض لمنن الأخوان أَوْ لصدقاتهمن أَوْ أن يأخذ من أرباب الظلم والشبهات فهذا هو الفعل المذموم المنهي عنه ولست أتعجب من المتزهدين الذين فعلوا هَذَا مَعَ قلة علمهم وإنما العجب من أقوام لهم عقل وعلم وَكَيْفَ حثوا عَلَى هَذَا وأمروا به مَعَ مصادمته للعقل والشرع وَقَدْ ذكر الحارث المحاسبي فِي هَذَا كلاما طويلا وشيده أَبُو حامد الغزالي ونصره والحارث عندي أعذر من أبي حامد لأن أبا حامد كان أفقه غير أن دخوله فِي التصوف أوجب عَلَيْهِ نصرة مَا دخل فيه.
فمن كلام الحارث المحاسبي فِي هَذَا أنه قَالَ أيها المفتون متى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد أزريت بمحمد صلى الله عليه وسلم والمرسلين وزعمت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم ينصح الأمة إذ نهاهم عَنْ جمع المال وَقَدْ علم أن جمعة خير لهم وزعمت أن اللَّه لم ينظر لعباده حين نهاهم عَنْ جمع المال وَقَدْ علم أن جمعة خير لهم وما ينفعك الاحتجاج بمال الصحابة وابن عوف فِي القيامة أن لو لم يؤت من الدنيا إلا قوتا قال ولقد بلغني أنه لما توفي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف قَالَ ناس من أصحاب رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنا نخاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ فيما ترك قَالَ كعب سبحان اللَّه وما تخافون عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ كسب طيبا وأنفق طيبا فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضبا يريد كعبا فمر بلحى بعير فأخذه بيده ثم انطلق يطلب كعبا فَقِيلَ لكعب إن أبا ذر طلبك فخرج هاربا حتى دخل عَلَى عثمان يستغيث به وأخبره الخبر فأقبل أَبُو ذر يقتص الأثر فِي طلب كعب حتى انتهى إِلَى دار عثمان فلما دخل قَامَ كعب فجلس خلف عثمان هاربا من أبي ذر فَقَالَ لَهُ أَبُو ذر هيه يا ابْن اليهودية تزعم أنه لا بأس بما ترك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف لقد خرج رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوما فَقَالَ: "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قَالَ هكذا وهكذا" ثم قَالَ يا أبا ذر وأنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد هَذَا وأنت تقول يا ابْن اليهودية لا بأس بما ترك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف كذبت وكذب من قَالَ بقولك فلم يرد عَلَيْهِ حرفا حتى خرج.
قال الحارث: فهذا عَبْد الرَّحْمَنِ مَعَ فضله يوقف فِي عرصة القيامة بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف فيمنع من السعي إِلَى الْجَنَّة مَعَ فقراء المهاجرين وصار يحبو فِي آثارهم حبوا وَقَدْ كان الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكن عندهم شيء فرحوا وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله وقلة اليقين بضمانه وكفى به دائما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها ولذاتها وقد بلغنا إِنَّ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ من أسف عَلَى دنيا فاتته قرب من النار مسيرة سنة وأنت تأسف عَلَى مَا فاتك غير مكترث بقربك من عذاب اللَّه عز وجل ويحك هل تجد فِي دهرك من الحلال كَمَا وجدت الصحابة وأين الحلال فتجمعه ويحك إني لك ناصح أرى لك أنك تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر فقد سئل بعض أهل العلم عَن الرَّجُل يجمع المال لأعمال البر فَقَالَ تركه أبر مِنْهُ وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عَنْ رجلين أحدهما طلب الدنيا حلالا فأصابها فوصل بِهَا رحمه وقدم منها لنفسه والآخر جانبها ولم يطلبها ولم يبذلها فأيهما أفضل فَقَالَ بعيد وَاللَّه مَا بينهما الذي جانبها أفضل كَمَا بين مشارق الأَرْض ومغاربها.
قَالَ المصنف: فهذا كله كلام الحارث المحاسبي ذكره أَبُو حامد وشيده وقواه بحديث ثعلبة فانه أعطى المال فمنع الزكاة قَالَ أَبُو حامد فمن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم لم يشك فِي أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إِلَى الخيرات إذ أقل مَا فيه اشتغالهم بإصلاحه عَنْ ذكر اللَّه عز وجل فينبغي للمريد أن يخرج من ماله حتى لا يبقى لَهُ إلا قدر ضرورته فما بقي لَهُ درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوب عَن اللَّه عز وجل قَالَ المصنف وهذا كله بخلاف الشرع والعقل وسوء فهم للمراد بالمال.
فصل: في رد هَذَا الكلام أما شرف المال فان اللَّه عز وجل عظم قدره وأمر بحفظه إذ جعله قواما للآدمي الشريف فهو شريف فَقَالَ تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} ونهى عز وجل أن يسلم المال إِلَى غير رشيد فَقَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وقد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى عَنْ إضاعة المال وقال لسعد لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس وقال مَا نفعني مال كمال أبي بَكْر والحديث بإسناد مرفوع عَنْ عمرو بْن العاص قَالَ بعث إلي رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي" فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغْنِمُكَ وَأَرْغَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً" فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ فَقَالَ: "يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ" والحديث بإسناد عَنْ أنس بْن مالك أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دعا لَهُ بكل خير وكان فِي آخر دعائه أن قَالَ: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك لَهُ" وبإسناد عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن كعب بْن مالك أن عُبَيْد اللَّه بْن كعب بْن مالك قَالَ سمعت كعب بْن مالك يحدث حديث توبته قَالَ فقلت يا رَسُول اللَّهِ أن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إِلَى اللَّه عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ".
قال المصنف: فهذه الأحاديث مخرجة فِي الصحاح وهي عَلَى خلاف مَا تعتقده المتصوفة من أن إكثار المال حجاب وعقوبة وأن حبسه ينافي التوكل ولا ينكر أنه يخاف من فتنة وأن خلقا كثيرا اجتنبوبه لخوف ذلك وأن جمعه من وجهة يعز وسلامة القلب من الافتنان به يبعد واشتغال القلب مَعَ وجوده بذكر الآخرة يندر ولهذا خيف فتنة فأما كسب المال فان من اقتصر عَلَى كسب البلغة من حلها فذلك أمر لا بد مِنْهُ وأما من قصد جمعه والاستكثار مِنْهُ من الحلال نظرنا فِي مقصوده فان قصد نفس المفاخرة والمباهاة فبئس المقصود وإن قصد إعفاف نفسه وعائلته وادخر لحوادث زمانه وزمانهم وقصد التوسعة عَلَى الإخوان وإغناء الفقراء وفعل المصالح أثيب عَلَى قصده وكان جمعه بهذه النية أفضل من كثير من الطاعات وَقَدْ كان نيات خلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فِي جمع المال سليمة لحسن مقاصدهم لجمعه فحرصوا عَلَيْهِ وسألوا زيادته وبإسناد عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر1 فرسه بأرض يقال لها ثرثر فأجرى فرسه حتى قَامَ ثم رمى سوطه فَقَالَ أعطوه حيث بلغ السوط وكان سَعْد بْن عبادة يدعو فيقول اللهم وسع علي.
قَالَ المصنف وأبلغ من هَذَا أن يعقوب عليه الصلاة والسلام لما قَالَ لَهُ بنوه {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} مال إِلَى هَذَا وأرسل ابنه بنيامين معهم وأن شعيبا طمع فِي زيادة مَا يناله فَقَالَ: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} وأن أيوب عليه السلام لما عوفي نثر عَلَيْهِ رجل2 جراد من ذهب فأخذ يحثو فِي ثوبه يستكثر مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أما شبعت قَالَ يا رب من يشبع من فضلك وهذا أمر مركوز فِي الطباع فَإِذَا قصد به الخير كان خيرا محضا.
وأما كلام المحاسبي فخطأ يدل عَلَى الجهل بالعلم وقوله إن اللَّه عز وجل نهى عباده عَنْ جمع المال وأن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى أمته عَنْ جمع المال فهذا محال إنما النهي عَنْ سوء القصد بالجمع أَوْ عَنْ جمعه من غير حله وما ذكره من حديث كعب وأبي ذر فمحال من وضع الجهال وخفاء صحته عنه ألحقه بالقوم وَقَدْ روي بعض هَذَا وإن كان طريقه لا يثبت وبإسناد عَنْ مالك بْن عَبْدِ اللَّهِ الزيادي عَنْ أبي ذر أنه جاء يستأذن عَلَى عثمان فأذن لَهُ وبيده عصاه فَقَالَ عثمان يا كعب إن عَبْد الرَّحْمَنِ توفي وترك مالا فما ترى فيه فَقَالَ إن كان يصل فيه حق اللَّه تعالى فلا بأس فرفع أبوذر عصاه فضرب كعبا وقال سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: " مَا أُحِبُّ لَوْ أَنَّ لِي هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ وَيُتَقَبَّلُ مِنِّي أَذَرُ خَلْفِي سِتَّ أَوَاقِيَ" أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا عُثْمَانُ أَسَمِعْتَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ نَعَمْ".
قَالَ المصنف وهذا الحديث لا يثبت وابن لهيعة مطعون فيه قَالَ يَحْيَى لا يحتج بحديثه والصحيح فِي التاريخ أن أبا ذر توفي سنة خمس وعشرين وعبد الرَّحْمَن توفي سنة اثنتي وثلاثين فقد عاش بعد أبي ذر سبع سنين ثم لفظ مَا ذكروه من حديثهم يدل عَلَى أن حديثهم موضوع ثم كيف تقول الصحابة رضي الله عنهم إنا نخاف عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ أَوْ ليس الإجماع منعقدا عَلَى إباحة جمع المال من حله فما وجه الخوف مَعَ الإباحة أَوْ يأذن الشرع فِي شيء ثم يعاقب عليه هَذَا قلة فهم وفقه ثم تعلقه بعبد الرَّحْمَن وحده دليل عَلَى أنه لم يسير سير الصحابة فإنه قد خلف طلحة ثلاثمائة بهار فِي كل بهار ثَلاثَة قناطير والبهار الحمل وكان مال الزبير خمسين ألف ألف ومائتي ألف وخلف ابْن مسعود رضي الله عنه تسعين ألفا وأكثر الصحابة كسبوا الأموال وخلفوها ولم ينكر أحد منهم عَلَى أحد.
وأما قوله: أن عَبْد الرَّحْمَنِ يحبوا حبوا يوم القيامة فهذا دليل عَلَى أنه لا يعرف الحديث أَوْ كان هَذَا مناما وليس هو فِي اليقظة أعوذ بالله من أن يحبو عَبْد الرَّحْمَنِ فِي القيامة أفترى من يسبق إذا حبا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف وَهُوَ من العشرة المشهود لهم بالجنة ومن أهل بدر المغفور لهم ومن أصحاب الشورى ثم الحديث يرويه عمارة بْن ذاذان وقال البخاري ربما اضطرب حديثه وقال أَحْمَد يروى عَنْ أنس أحاديث مناكير وقال أَبُو حاتم الرازي لا يحتج به وقال الدَّارَقُطْنِيّ ضعيف أَخْبَرَنَا ابْن الحصين مرفوعا إِلَى عمارة عَنْ ثابت عَنْ أنس رضي الله عنه قَالَ بينما عائشة رضي الله عنها فِي بيتها سمعت صوت فِي المدينة فقالت مَا هَذَا فقالوا عير لعبد الرَّحْمَن بْن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء قال وكانت سبعمائه بعير فارتجت المدينة من الصوت فقالت عائشة رضي الله عنها سَمِعْتُ رَسُولَ الَّلهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: "قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا" فبلغ ذلك عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف فَقَالَ إن استطعت لأدخلنها قائما فجعلها بأقتابها وأحمالها فِي سبيل اللَّه عز وجل.
وقوله: ترك المال الحلال أفضل من جمعه ليس كذلك بل متى صح القصد فجمعه أفضل بلا خلاف عند العلماء والحديث الذي ذكره عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ أسف عَلَى دنيا فاتته الخ محال مَا قاله رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقوله هل تجد فِي دهرك حلالا فيقال لَهُ وما الذي أصاب الحلال والنبي صلى الله عليه وسلم يَقُول: "الحلال بين والحرام بين" أترى يريد بالحلال وجود حبة مذ خرجت من المعدن مَا تقلبت فِي شبهة هَذَا يبعد وما طولبنا به بل لو باع المسلم يهوديا كان الثمن حلالا بلا شك هَذَا مذهب الفقهاء وأعجب لسكوت أبي حامد بل لنصرته مَا حكى وَكَيْفَ يَقُول أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إِلَى الخيرات ولو أدعى الإجماع عَلَى خلاف هَذَا لصح ولكن تصوفه غير فتواه وعن المرزوي قَالَ سَمِعْتُ رجلا يَقُول لأبي عُبَيْد اللَّه إني فِي كفاية فَقَالَ الزم السوق تصل به الرحم وتعود المرضى.
وقوله: ينبغي للمريد أن يخرج من ماله قد بينا أنه إن كان حراما أَوْ فيه شبهة أَوْ إن يقنع هو باليسير أَوْ بالكسب جاز لَهُ أن يخرج مِنْهُ وإلا فلا وجه لذلك وأما ثعلبة فما ضره المال إنما ضره البخل بالواجب.
وأما الأنبياء فقد كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام زرع ومال ولشعيب ولغيره وكان سَعِيد بْنِ الْمُسَيِّبِ رضي الله عنه يَقُول لا خير فيمن لا يطلب المال يقضي به دينه ويصون به عرضه ويصل به رحمه فان مات تركه ميراثا لمن بعده وخلف ابْن المسيب أربعمائة دِينَار وَقَدْ ذكرنا مَا خلفت الصحابة وَقَدْ خلف سفيان الثوري رضي الله عنه مائتين وكان يَقُول المال فِي هَذَا الزمان سلاح وما زال السلف يمدحون المال ويجمعونه للنوائب وإعانة الفقراء وإنما تجافاه قوم منهم إيثارا للتشاغل بالعبادات وجمع الهمم فقنعوا باليسير ولو قَالَ هَذَا القائل أن التقلل مِنْهُ أولى قرب الأمر ولكنه زاحم به مرتبة الاثم.
فصل: واعلم أن الفقر مرض فمن ابتلى به وصبر أثيب عَلَى صبره ولهذا يدخل الفقراء الْجَنَّة قبل الاغنياء بخمسمائة عام لمكان صبرهم عَلَى البلاء والمال نعمة والنعمة تحتاج إِلَى شكر والغني وإن تعب وخاطر كالمفتي والمجاهد والفقير كالمعتزل فِي زاوية وَقَدْ ذكر أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي فِي كتاب سنن الصوفية باب كراهية أن يخلف الفقير شيئا فذكر حديث الذي مات من أهل الصفة وخلف دينارين فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كيتان".
قال المصنف: وهذا احتجاج من لا يفهم الحال فان ذلك الفقير كان يزاحم الفقراء فِي أخذ الصدقة وحبس مَا معه فلذلك قَالَ كيتان ولو كان المكروه نفس ترك المال لما قال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" ولما كان أحد من الصحابة يخلف شيئا وَقَدْ قَالَ عُمَر بْن الخطاب رضي الله عنه حث رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصدقة فجئت بنصف مالي فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وما أبقيت لأهلك" فقلت مثله فلم ينكر عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ وفي هَذَا الحديث دليل عَلَى بطلان مَا يقوله جهلة المتصوفة أن ليس للإنسان ادخار شيء فِي يومه لغده وإن فاعل ذلك قد أساء الظن بربه ولم يتوكل عَلَيْهِ حق توكله قَالَ ابْن جرير وكذلك قوله عَلَيْهِ الصلاة السلام: "اتخذوا الغنم فإنها بركة" فيه دلالة عَلَى فساد قول من زعم من المتصوفة أنه لا يصح لعبد التوكل عَلَى ربه إلا بأن يصبح ولا شيء عنده من عين ولا عرض ويمسي كذلك ألا ترى كيف ادخر رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأزواجه قوت سنة فصل: وقد خرج أقوام من أموالهم الطيبة ثم عادوا يتعرضون للأوساخ ويطلبون وهذا لأن حاجة الإنسان لا تنقطع والعاقل يعد للمستقبل وهؤلاء مثلهم فِي إخراج المال عند بداية تزهدهم مثل من روي فِي طريق مكة فبدد المال الذي معه والحديث بإسناد عَنْ جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قدم أَبُو حصين السلمي بذهب من معدنهم فقضى دينا كان عَلَيْهِ وفضل معه مثل بيضة الحمامة فأتى بِهَا رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ ضع هذه حيث أراك اللَّه أَوْ حيث رأيت قَالَ فجاءه عَنْ يمينه فأعرض عنه ثم جاءه عَنْ يساره فأعرض عنه ثم جاءه من بين يديه فنكس رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رأسه فلما أكثر عَلَيْهِ أخذها من يديه فحذفه بِهَا لو أصابته لعقرته ثم أقبل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى مَالِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَإِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" وَقَدْ رواه أَبُو داود فِي سننه من حديث محمود بْن لبيد عَنْ جابر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال كنا عند رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فَقَالَ يا رَسُول اللَّهِ أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة مَا أملك غيرها فأعرض عنه رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فَقَالَ مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فآخذها رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فحذفه بِهَا فلو أصابته لأقصعته أَوْ لعقرته فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة مَا كان عَنْ ظهر غنى" وفي رواية أخرى خذ عنا مالك لا حاجة لنا به وروى أَبُو داود من حديث أبي سَعِيد الخدري رضي الله عنه قَالَ دخل رجل المسجد فأمر رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فأمر لَهُ منها بثوبين ثم حث عَلَى الصدقة فجاء فطرح أحد الثوبين فصاح به: "خذ ثوبك".
قَالَ المصنف: ونقلت من خط أبي الوفاء بْن عقيل قَالَ قَالَ ابْن شاذان دخل جماعة من الصوفية عَلَى الشبلي فأنفذ إِلَى بعض المياسير يسأله مَا لا ينفقه عليهم فرد الرسول وقال يا أبا بَكْر أنت تعرف الحق فهلا طلبت مِنْهُ فَقَالَ للرسول ارجع إليه وقل لَهُ الدنيا سفلة أطلبها من سفلة مثلك وأطلب الحق من الحق فبعث إليه بمائة دِينَار قَالَ ابْن عقيل إن كان أنفذ إليه المائة دِينَار للافتداء من هَذَا الكلام القبيح وأمثاله فقد أكف الشبلي الخبيث من الرزق وأطعم أضيافه مِنْهُ.
فصل: وقد كان لبعضهم بضاعة فأنفقها وقال مَا أريد أن تكون ثقتي إلا بالله وهذا قلة فهم لأنهم يظنون أن التوكل قطع الأسباب وإخراج الأموال أَخْبَرَنَا القزاز قَالَ أَخْبَرَنَا الخطيب قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم الْحَافِظ قَالَ أَنْبَأَنَا جَعْفَر الخلدي فِي كتابه قَالَ سمعت الجنيد يَقُول دققت عَلَى أبي يعقوب الزيات بابه فِي جماعة من أصحابنا فَقَالَ مَا كان لكم شغل فِي اللَّه عز وجل يشغلكم عَن المجيء إلي فقلت لَهُ إذا كان مجيئا إليك من شغلنا به فلم ننقطع عنه فسألته عَنْ مسألة فِي التوكل فأخرج درهما كان عنده ثم أجابني فأعطى التوكل حقه ثم قَالَ استحييت من اللَّه أن أجيبك وعندي شيء.
قَالَ المصنف: لو فهم هؤلاء معنى التوكل وأنه ثقة القلب بالله عز وجل لا إخراج صور المال مَا قَالَ هؤلاء هَذَا الكلام ولكن قل فهمهم وَقَدْ كان سادات الصحابة والتابعين يتجرون ويجمعون الأموال وما قَالَ مثل هَذَا أحد منهم وَقَدْ روينا عَنْ أبي بَكْر الصديق رضي الله عنه قَالَ حين أمر بترك الكسب لأجل شغله بالخلافة فمن أين أطعم عيالي وهذا القول منكر عند الصوفية يخرجون قائله من التوكل وكذلك ينكرون عَلَى من قَالَ هَذَا الطعام يضرني وَقَدْ رووا فِي ذلك حكاية عَنْ أبي طالب الرازي قَالَ حضرت مَعَ أصحابنا فِي موضع فقدموا اللبن وقال لي كل فقلت لا آكله فانه يضرني فلما كان بعد أربعين سنة صليت يوما خلف المقام ودعوت اللَّه عز وجل وقلت اللهم إنك تعلم أني مَا أشركت بك طرفة عين فسمعت هاتفا يهتف بي ويقول ولا يوم اللبن.
قَالَ المصنف: وهذه الحكاية اللَّه أعلم بصحتها واعلم أن من يَقُول هَذَا يضرني لا يريد أن يفعل ذلك الضرر بنفسه وإنما يريد أنه سبب الضرر كَمَا قَالَ الخليل صلوات اللَّه وسلامه عَلَيْهِ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} وقد صح عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا نفعني مال كمال أبي بَكْر" وقوله مَا نفعي مقابل لقول القائل مَا ضرني ويصح عنه أنه قَالَ: "مَا زالت أكلة خيبر تعادني فهذا أَوْ أن قطعت أبهري1" وقد ثبت أنه لا رتبة أولى من رتبة النبوة وَقَدْ نسب النفع إِلَى المال والضرر إِلَى الطعام فالتحاشي عَنْ سلوك طريقه صلى الله عليه وسلم تعاط عَلَى الشريعة فلا يلتفت إِلَى هذيان من هذى فِي مثل هذا.
فصل: قَالَ المصنف: وَقَدْ بينا أنه كان أوائل الصوفية يخرجون من أموالهم زهدا فيها وذكرنا أنهم قصدوا بذلك الخير إلا أنهم غلطوا فِي هَذَا الفعل كَمَا ذكرناه من مخالفتهم بذلك الشرع والعقل فأما متأخروهم فقد مالوا إِلَى الدنيا وجمع المال من أي وجه كان إيثارا للراحة وحبا للشهوات فمنهم من يقدر عَلَى الكسب ولا يعمل ويجلس فِي الرباط أَوِ المسجد ويعتمد عَلَى صدقات الناس وقلبه معلق بطرق الباب ومعلوم أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة1 سوى ولا يبالون من بعث إليهم فربما بعث الظالم والماكس فلم يردوه وَقَدْ وضعوا فِي ذلك بينهم كلمات منها تسمية ذلك بالفتوح ومنها أن رزقنا لا بد أن يصل إلينا ومنها أنه من اللَّه فلا يرد عَلَيْهِ ولا نشكر سواه وهذا كله خلاف الشريعة وجهل بِهَا وعكس مَا كان السلف الصالح عَلَيْهِ فإن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْر الصديق رضي الله عنه من أكل الشبهة وكان الصالحون لا يقبلون عطاء ظالم ولا ممن فِي ماله شبهة وكثير من السلف لم يقبل صلة الإخوان عفافا وتنزها وعن أبي بَكْر المرزوي قَالَ ذكرت لأبي عَبْد اللَّهِ رجلا من المحدثين فَقَالَ رحمه الله أي رجل كان لولا خلة واحدة ثم سكت ثم قَالَ ليس كل الخلال يكملها الرَّجُل فقلت لَهُ أليس كان صاحب سنة فَقَالَ لعمري لقد كتبت عنه وله خلة واحدة كان لا يبالي ممن أخذ.
قَالَ المصنف: ولقد بلغنا أن بعض الصوفية دخل عَلَى بعض الأمراء الظلمة فوعظه فأعطاه شيئا فقبله فَقَالَ الأمير كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف ثم أين هؤلاء من الأنفة من الميل للدنيا فان النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اليد العليا خير من اليد السفلى" واليد العليا هي المعطية هكذا فسره العلماء وَهُوَ الحقيقة وَقَدْ تأوله بعض القوم فَقَالَ العليا هي الآخذة قَالَ ابْن قتيبة ولا أرى هَذَا إلا تأويل قوم استطابوا السؤال.
فصل: قال المصنف: ولقد كان أوائل الصوفية ينظرون فِي حصول الأموال من أي وجه ويفتشون عَنْ مطاعمهم وسئل أحمد بْن حنبل عَنْ السرى السقطى فَقَالَ الشيخ المعروف بطيب المطعم وقال السري صحبت جماعة إِلَى الغزو فاكترينا دارا فنصبت فيها تنورا فتورعوا أن يأكلوا من خبز ذلك التنور فأما من يرى مَا قد تجدد من صوفية زماننا من كونهم لا يبالون من أين أخذوا فإنه يعجب ولقد دخلت بعض الأربطة فسألت عَنْ شيخه فَقِيلَ لي قد مضى إِلَى الأمير فلان يهنئه بخلعه قد خلعت عَلَيْهِ وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت ويحكم مَا كفاكم أن فتحتم الدكن حتى تطوفون عَلَى رءوسكم بالسلع يقعد أحدكم عَنْ الكسب مَعَ قدرته عَلَيْهِ معولا عَلَى الصدقات والصلات ثم لا يكفيه حتى يأخذ فمن كان ثم لا يكفيه حتى يدور عَلَى الظلمة فيستعطي منهم ويهنئهم بملبوس لا يحل وولاية لا عدل فيها وَاللَّه إنكم أضر عَلَى الإسلام من كل مضر.
فصل: قال المصنف وَقَدْ صار جماعة من أشياخهم يجمعون المال من الشبهات ثم ينقسمون فمنهم من يدعي الزهد مَعَ كثرة المال وحرصه عَلَى الجمع وهذه الدعوى مضادة للحال ومنهم من يظهر الفقر مَعَ جمعه المال وأكثر هؤلاء يضيقون عَلَى الفقراء بأخذهم الزكاة ولا يجوز لهم ذلك وَقَدْ كان أَبُو الْحَسَنِ البسطامي شيخ رباط بْن المجيان1 يلبس الصوف صيفا وشتاء وتقصده الناس يتبركون به فمات فخلف أربعة آلاف دِينَار.
قَالَ المصنف: وهذا فوق القبيح وَقَدْ صح عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ رجلا من أهل الصفة مات فخلف دينارين فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "كيتان" [تلبيس إبليس (ص158-167)]
امام سفيان ثوري رحمه الله (المتوفى 161) فرماتے ہیں:
”يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفيا لأن الآفات إليهم أسرع وألسنة الناس إليهم أشرع ، زاد غيره فيه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان وإذا احتاج ذل قال سفيان لولا هذه الضيعة التي معي لتمندل بي الملوك“
”میں اس بات کو پسند کرتا ہوں کہ علماء خوشحال ہوں کیونکہ آفتیں اور بلائیں ان کی طرف بہت تیزی سے آتی ہیں ، ان کے بارے میں لوگوں کی زبانیں بھی بہت چلتی ہیں ، جب علماء محتاج ہوتے ہیں تب انہیں ذلت کا سامنا کرنا پڑتاہے ، سفیان ثوری رحمہ اللہ اپنے بارے میں کہتے ہیں کہ اگر میرے پاس میرے یہ پیسے نہ ہوتے تو بڑے بڑے لوگ مجھے ٹیشو پیپر کی طرح استعمال کرتے۔“
[المدخل إلى السنن الكبرى ص: 337 وإسناده صحيح وللزيادات أسانيد أخري صحيحة]
No comments:
Post a Comment